فصل: تفسير الآيات (1- 4):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (71- 85):

{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)}
قلت: {إذ قال}: متعلق بيختصمون، أو: بدل من {إذ} قبله، أو: باذكر. والحق: فمن نصبه، فعلى حذف فعل القسم، كقولك: الله لأفعلن، أي: أقسم بالحق، فحذفت الباء ووصل الفعل به، ومن رفعه؛ فمبتدأ، أي: الحقُّ مني، أو: خبر، أي: أنا الحق. والحق الثاني: مفعول أقول، والجملة: معترضة بين القسم وجوابه، وهو: {لأملأن}.
يقول الحق جلّ جلاله في تفسير الاختصام المذكور: {إِذ قال ربُّكَ للملائكة} حين أراد خلق آدم، {إِني خالق بشراً من طينٍ}، وقال: {إِنِّى جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]. والتعرُّض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلى الله عليه وسلم، والإيذان بأنَّ وحي هذا النبأ إليه تربية وتأييد له. والكاف وارد باعتبار حال الآمر، لكونه أدلّ على كونه وحياً منزلاً من عنده تعالى، كما في قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ...} [الزمر: 54] إلخ، دون حال المأمور، وإلاَّ لقال: ربي؛ لأنه داخل في حيز الأمر. {فإِذا سوَّيتُه} أي: صوَّرْتُه بالصورة الإنسانية، والخلقة البشرية، أو: سويت أجزاء بدنه، بتعديل أعضائه، {ونَفَخْتُ فيه من روحي} الذي خلقته قبلُ، وأضافه إليه تخصيصاً، كبيت الله، وناقة الله. والروح سر من أسرار الله، لطيفة ربانية، سارية في كثيفة ظلمانية، فإذا سرت فيه حيى بإذن الله، أي: فإذا أحييته {فَقَعُوا} أي: اسقطوا {له}، وهو أمر، مِن وقع، {ساجدين} قيل: كان انحناء يدلّ على التواضع، وقيل: كان سجوداً لله، أو سجود تحية لآدم وتكريماً له.
{فسجد الملائكةُ كلُّهم أجمعون}، كلّ للإحاطة، و{أجمعون} للاجتماع، فأفاد أنهم سجدوا عن آخرهم جميعاً، في قوت واحد، غير متفرقين في أوقات. وظاهر هذه الآية وما في سورة الحِجْر: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 29، 30] أن الأمر بالسجود كان تعليقاً، لا تنجيزياً، فأمرهم بالسجود قبل أن يخلقه، بل حين أعلمهم بخلقه، فلما خلقه سجدوا ممتثلين للأمر الأول، وظاهر ما في البقرة والأعراف والإسراء والكهف: أن الأمر كان تنجيزياً بعد خلقه، والجمع بينهما: أنه وقع قبل وبعد، أو: اكتفى بالتعليقي، كما يقتضيه الحديث، حيث قال له بعد نفح الروح فيه: «اذهب فسلِّم على أولئك الملائكة، فسلّم عليهم، فردُّوا عليه وسجدوا له» والله تعالى أعلم بغيبه.
{إِلا إِبليسَ استكْبَرَ} أي: تعاظم عن السجود، والاستثناء متصل إن قلنا: كان منهم، حيث عبد عبادتهم، واتصف بصفاتهم، مع كونه جنياً، أو: منقطع، أي: لكن إبليس استكبر، {وكان من الكافرين} أي: صار منهم بمخالفته للأمر، واستكباره عن الطاعة، أو: كان منهم في علم الله.
{قال يا إبليسُ ما منعك أن تسجدَ} أي: عن السجود {لِما خلقتُ بيديَّ}، بلا واسطة أب ولا أم، امتثالاً لأمري، وإعظاماً لخطابي، ولَمَّا كانت الأعمال تُباشر في الغالب باليد، أطلقت على القدرة. والتثنية لإبراز كمال الاعتناء بخلقه عليه السلام، المستدعي لإجلاله وإعظامه، قصداً إلى تأكيد الإنكار، وتشديد التوبيخ، وسيأتي في الإشارة بقية الكلام في سر التثنية. قال له تعالى: {أَسْتَكْبَرْتَ}، بهمزة الاستفهام، وطرح همزة الوصل، أي: أتكبرت من غير استحقاق، {أم كنت من العالين} المستحقين للتفوُّق، أو: أستكبرت عن السجود ولم تكن قبل ذلك من المتكبرين، أم كنت قبل ذلك من المتكبرين على ربك؟
{قال أنا خير منه}، ولا يليق أن يسجد الفاضل للمفضول، كقوله: {لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 30]، وبيَّن فضيلته في زعمه بقوله: {خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ}، يعني لو كان مخلوقاً من نار لَمَا سجدتُ له؛ لأنه مخلوق مثلي، فكيف أسجد لمَن هو دوني؛ لأنه طين، والنار تغلب الطين وتأكله، ولقد أخطأ اللعين، حين خَصَّ الفضل بما من جهة المادة والعنصر، وغاب عنه ما من جهة الفاعل، كما أنبأ عنه قوله تعالى: {لِما خلقتُ بيدي}، وما من جهة الصورة كما نبّه عليه قوله تعالى: {ونفخت فيه من روحي}، وما من جهة الغاية، وهو ما خصَّه به من علوم الحكمة، التي ظهرت بها مزيته على الملائكة، حتى أُمروا بالسجود، لما ظهر أنه أعلم منهم بما تدور عليه أمر الخلافة في الأرض، وأن له خواص ليست لغيره.
{قال فاخرجْ منها}؛ من الجنة، أو: من زمرة الملائكة، وهو المراد بالأمر بالهبوط، أو: من السموات، أو: من الخِلقة التي أنت فيها، وانسلخ منها، فإنه كان يفتخر بخلقته، فغيّر الله خلقته، فاسودّ بعدما كان أبيض، وقبح بعدما كان حسناً، وأظلم بعدما كان نورانياً. {فإِنك رجيم} أي: مرجوم، مطرود، من كل خير وكرامة. أو: شيطان يُرجم بالشُهب.
{وإِن عليك لعنتي}؛ إبعادي من الرحمة، وتقييدها هنا، وإطلاقها في قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} [الحجر: 35]؛ لأن لعنة اللاعنين من الثقلين والملائكة أيضاً من جهته تعالى، وأنهم يدعون عليه بلعنة الله وإبعاده من الرحمة، {إِلى يوم الدين}؛ إلى يوم الجزاء والعقوبة، ولا يُظَن أن لعنته غايتها يوم الدين، ثم تنقطع، بل في الدنيا اللعنة وحدها، ويوم القيامة يقترن بها العذاب، فيلقى يومئذ من ألوان العذاب، وأفانين العقاب، ما ينسى به اللعنة، وتصير عنده كالزائد. أو: لَمَّا كان عليه اللعنة في أوان الرحمة، فأولى أن يكون عليه اللعنة في غير أوانها، وكيف ينقطع، وقد قال تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44] وهو إمامُهم؟
{قال} إبليسُ: {رَبِّ فأَنظِرْنِي}؛ أمهلني وأخِّرني، أي: إذا جعلتني رجيماً فأمهلني ولا تمتني، {إِلى يوم يبعثون} أي: آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم.
وأراد بذلك فسْحته لإغوائهم، وليأخذ منهم ثأره، وينجو من الموت بالكلية؛ إذ لا موت بعد البعث، {قال} تعالى: {فإِنك من المنظرين إلى يوم الوقتِ المعلوم}، وهو وقت النفخة الأولى، ومعنى معلوم أنه معلوم عند الله، لا يتقدم ولا يتأخر، وورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرُّض لشمول ما سأله لآخرين، على وجهٍ يُشعر بكون السائل تبعاً لهم في ذلك، دليل واضح على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلاً، لا إنشاء لإنظار خاص به، قد وقع إجابة لدعائه، أي: إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلاً، حسبما تقتضيه حكمة التكوين.
{قال فبعزَّتك لأُغْوِينَّهم أجمعين}، أقسم بعزّة الله، وهو سلطانه وقهره على إغواء بني آدم، بتزيين المعاصي والكفر، {إِلا عبادَكَ منهم المخلصِين}، وهم الذين أخلصهم الله للإيمان به وطاعته، وعصمهم من الغواية، أو: الذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهم لله في قراءة الكسر.
{قال} تعالى: {فالحقّ والحقَّ أقولُ} أي: أقسم بالحق ولا أقول إلا الحق، أو: الحق قسَمي وأقول الحق: {لأملأَنَّ جهنمَ منك}؛ من جنسك، وهم الشياطين، {وممن تَبِعَكَ منهم}؛ من ذرية آدم {أجمعين} أي: لأعمرنَّ جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين، لا أترك منهم أحداً.
الإشارة: التجلي بهذا الهيكل الآدمي فاق جميع التجليات، وصورته البديعة فاقت جميع الصور، ولذلك لم يقل الحق تعالى في شيء أنه خلقه في أحسن تقويم إلا الآدمي، وذلك لأنه اجتمع فيه الضدان، واعتدل فيه الأمران؛ الظلمة والنور، الحس والمعنى، الروحانية والبشرية، القدرة والحكمة. ولذلك قال تعالى فيه: {لِما خلقت بيدي}، ولم يقله في غيره، أي: خلقته بيد القدرة ويد الحكمة. فالقدرة كناية عما في باطنه من أسرار المعاني الإلهية، والحكمة عبارة عما في قالَبه من عجائب التصوير، وغرائب التركيب، ولذلك كانت معرفته أتم، وترقِّيه لا ينقطع، إن كان من أهله، وراجع ما تقدّم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} [الإسراء: 70].
وقال القشيري بعد كلام: فسبحان الله! خلق أعَزَّ خَلْقِه من أذّلِّ شيءٍ وأَخَسِّه. ثم قال: ما أودع عند آدم لم يوجد عند غيره، فيه ظهرت الخصوصية. اهـ.

.تفسير الآيات (86- 88):

{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)}
يقول الحق جلّ جلاله: {قل ما أسألُكُم} على تبليغ الوحي أو على القرآن {من أجْرٍ} دنيوي، حتى يثقل عليكم، {وما أنا من المتكلِّفين} أي: المتصنِّعين بما ليسوا من أهله، وما عرفتموني قط متصنعاً حتى أنتحل النبوة، أو أتقوّل القرآن، وعنه صلى الله عليه وسلم: «للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم».
{إِن هو}: ما هو {إِلا ذِكْرٌ}: وعظ من الله عزّ وجل {للعالَمين}؛ الثقلين كافة، {ولتعلمُنَّ نبأَهُ}؛ نبأ القرآن، وصحة خبره، وما فيه من الوعد والوعيد، وذكر البعث والنشور، {بعد حين}؛ بعد الموت، أو: يوم بدر، أو القيامة، أو: بعد ظهور الإسلام وفشوه. وفيه من التهديد ما لا يخفى. ختم السورة بالذكر كما افتتحها بالذكر.
الإشارة: تقدّم مراراً التحذير من طلب الأجر على التعليم، أو الوعظ والتذكير، اقتداء بالرسل عليهم السلام. وفي الآية أيضاً: النهي عن التكلُّف والتصنُّع، وهو نوع من النفاق، وضرب من الرياء. وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للذين لا يدعون، ولا يتكلفون، ألا إني بريء من التكلُّف، وصالحوا أمتي» وقال سلمان: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاَّ نتكلف للضيف ما ليس عندنا!». وكان الصحابة رضي الله عنهم يُقَدِّمون ما حضر من الكسر اليابسة، والحشف البالي أي: الرديء من التمر ويقولون: لا ندري أيهما أعظم وزراً، الذي يحتقر ما قدم إليه، أو: الذي يحتقر ما عنده فلا يقدمه. اهـ. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

.سورة الزمر:

.تفسير الآيات (1- 4):

{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)}
{تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص...}.
قلت: {تنزيل} خبر، أي: هذا تنزيل، و{من الله}: صلة لتنزيل، أو: خبر ثان، أو: حال من التنزيل، عاملها: معنى الإشارة.
يقول الحق جلّ جلاله: هذا الذي تتلوه هو {تنزيلُ الكتاب}، نزل {من} عند {الله العزيزِ} في سلطانه {الحكيم} في تدبيره. وإيثار الوصفين للإيذان بجريان أثريهما في الكتاب، بجريان أحكامه ونفوذ أوامره ونواهيه. {إِنا أنزلنا إِليك الكتاب بالحق}: ليس بتكرُّر؛ لأن الأول كالعنوان للكتاب، والثاني لبيان ما في الكتاب. قال أبو السعود: والمراد بالكتاب: القرآن، وإظهاره على تقدير كونه هو المراد بالأول؛ لتعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنه. والباء إما متعلقة بالإنزال، أي: بسبب الحق وإظهاره، أو: بداعيته واقتضائه، وإما بمحذوف هو حال من نون العظمة، أو: من الكتاب، أي: أنزلناه إليه محقين في ذلك، أو: ملتبساً بالحق والصواب، أي: ما فيه حق لا ريب فيه موجب العمل به حتماً. قال القشيري: بالحق، أي: بالدين الحق والشرع الحق، وأنا مُحِق في إنزاله.
{فاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً له الدينَ} أي: فاعبده تعالى مخلصاً دينه من شوائب الشرك والرياء، حسبما بُيِّن في تضاعيف ما أنزل إليه. {ألاَ للهِ الدينُ الخالِصُ} أي: هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة من كل شائبة؛ لأنه المنفرد بصفات الألوهية، التي من جملتها: الاطلاع على السرائر والضمائر.
الإشارة: قال القشيري: كتابٌ عزيزٌ، نزل من ربٍّ عزيز، على عبدٍ عزيز، بلسان مَلَكٍ عزيز، في شأنِ أمةٍ عزيزة، بأمرٍ عزيز. وأنشدوا:
ورَدَ الرسولُ من الحبيب الأوَّلِ ** بعد البلاء وبعد طُول الأمل

تنزيل تنزّهت قلوب الأحباب بعد ذُبولِ عصن سرورها، في كتاب الأحباب، عند قراءة فصولها. والعجب منها كيف لا تزهو سروراً بوصولها، وارتياحاً بحصولها، وكتابُ موسى في الألواح، ومنها كان يقرأ موسى، وكتابُ نبينا صلى الله عليه وسلم نَزَلَ به الروح، الأمين، على قلبك، وفَصْلٌ بين مَن يكون خطابُ ربه مكتوباً في ألواحه، وبين مَن يكون خطاب ربه محفوظاً في قلبه، وكذلك أمته، {بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ في صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]. اهـ.
وقوله تعالى: {فاعْبُد اللهَ مخلصاً له الدينَ}، قال القشيري: العبادة: معانقة الطاعات على نعت الخضوع، وتكون بالنفس وبالقلب وبالروح، فالتي بالنفس أي: بالجوارح الإخلاص فيها: التباعد عن الانتقاص، والتي بالقلب، أي: كالفكرة والنظرة، الإخلاص فيها: التباعد عن رؤية الأشخاص أي: الحس من حيث هو والتي بالروح، الإخلاص فيها: التنقِّي عن رؤية طلب الاختصاص.
قوله تعالى: {ألا لله الدينُ الخالصُ} هو ما يكون جملته لله، وما للعبد فيه نصيب فهو عن الإخلاص بعيد، اللهم إلا أن يكون بأمره، فإنه إذا أَمَرَ العبدَ أن يحتسب الأجرَ على طاعته، فأطاعه، لا يخرج عن الإخلاص بامتثاله ما أمره به، ولولا هذا مَا صحَّ أن يكون في العالَم مُخْلِصٌ، يعني: أن جُل الناس إنما يطيعون لاحتساب الأجر، إلا الفرد النادر، فمَن زال عنه الحجاب فإنه يعبد الله بالله، شكراً، وإظهاراً للأدب، فإن قصد الاحتساب، ثم طرأ عليه خواطر بعد تحقق الإخلاص، فلا يضر، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» وهذا في أصل القصد، والعوارض غير مضرة، كما هو صريح حديث آخر. والله تعالى أعلم.
ثمّ ردّ على المشركين، فقال: {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار}.
قلت: {والذين}: مبتدأ، و{ما نعبدهم}: محكي بقول محذوف، حال من واو {اتخذوا} وجملة {إن الله}: خبر، والاستثناء مفرغ من أعم العلل، و{زلفى}: مصدر.
يقول الحق جلّ جلاله: {والذين اتخذوا من دونه أولياء} أي: لم يخلصوا في عبادتهم، بل شاوبُوها بعبادة غيره، كالأصنام، والملائكة، وعيسى، قائلين: {ما نعبدهم} لشيء من الأشياء {إِلا لِيُقَربُونا إِلى الله زُلفى} أي: تقريباً، {إِن الله يحكم بينهم} وبين خصمائهم، الذين هم المخلصون للدين، وقد حذف لدلالة الحال عليه، كقوله: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285] على أحد الوجهين، أي: بين أحد منهم وبين غيره. قيل: كان المسلمون إذا قالوا للمشركين: مَن خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، فإذا قالوا لهم: فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
{إِن الله يحكُم} يوم القيامة بين المتنازعين من المسلمين والمشركين {فيما هم فيه يَختلِفُون} من التوحيد والإشراك، وادعاء كل واحد صحة ما انتحله. وحكمُه تعالى هو إدخال الموحدين الجنة والمشركين النار. وقيل: الموصول واقع على الأصنام، والعائد محذوف، أي: والذين اتخذوهم من دونه أولياء، قائلين: ما نعبدهم... إلخ، إن الله يحكم بينهم، أي: بين العبَدة والمعبودين فيما هم فيه يختلفون، حيث يرجون منها شفاعتها وهي تلعنهم، وهذا بعيد.
{إِن الله لا يهدي}: لا يُوفِّق للاهتداء {مَن هو كاذب كفَّار} أي: راسخ في الكذب، مبالغ في الكفر، كما يُعرب عنه قراءة من قرأ: {كذاب} أو: {كذوب}، أي: لا يهديهما اليوم لدينه؛ لسابق الشقاء، ولا في الآخرة لثوابه؛ لأنهما اليوم فاقدان للبصيرة، غير قابلين للاهتداء؛ لتغييرهما الفطرة الأصلية بالتمرُّن في الضلالة والتمادي في الغي.
{لو أراد اللهُ أن يتخذ ولداً} كما يزعم مَن يقول: الملائكة بنات الله، والمسيح وعزير ابن الله، تعالى الله عن قولهم عُلواً كبيراً، {لاصْطَفى مما يَخْلُقُ ما يشاء} أي: لاختار مِن خلقه ما يشاء، ممن له مناسبة صمدانية، كالملائكة، فإنهم منزَّهون عن نقائض البشرية، كالأكل والشرب والنكاح، لكن لم يُرد ذلك؛ لاستحالته في حقه تعالى.
قال القشيري: خاطَبَهم على قَدْرِ عقولهم وعقائدهم، فقال: لو أراد الله أن يتخذ ولداً بالتبنِّي والكرامة لاختار من الملائكة، الذين هم مبرَّؤون من الأكل والشرب وأوصافِ الخلق، ثم أخبر عن تَقَدُّسه عن ذلك، فقال: {سبحانه} أي: تنزيهاً له عن اتخاذ الولد على الحقيقة؛ لاستحالة معناه في نَعْتِه، ولا بالتبني، لتقدُّسه عن الجنسية، والمحالات تدل على وجه الإبعاد. اهـ.
والحاصل: أن الولد في حقه تعالى؛ إن كان عن طريق التولُّد فهو محال، عقلاً ونقلاً، وإن كان عن طريق التبني والكرامة فمُحال سمعاً، وقيل: وعقلاً. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه: قوله، أي: القشيري: لتقدُّسه عن الجنسية، يعني لوحدته وقهره، كما رمز إلى ذلك بذكر الاسمين، أي: الواحد القهّار، وهما عاملان في كل مخلوق، ومحال تعطيلهما بالتبني المقتضي للجنسية، المباينة للوحدانية والقهر، فلا يمكن إلا العبودية، عقلاً، ونقلاً، وحقيقة، وهذا أشد من كلام ابن عطية، فإنه جوّز اتخاذه على جهة التشريف والتبني عقلاً، وإن امتنع شرعاً، لعموم آية: {وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم: 92]؛ لاتخاذ النسل المستحيل عقلاً ونقلاً، ولاتخاذ الاصطفاء الممتنع شرعاً. وهو أيضاً أشدُّ من كلام الزمخشري، حيث قال: معنى الآية: لو أراد الله اتخاذ الولد لامتنع ذلك، ولكنه يصطفي مَن يشاء من عباده، على وجه الاختصاص والتقريب، لا على وجه اتخاذه ولداً. اهـ. فأجمل في الامتناع، وإن كان المتبادر منه شمول القسمين، وكذا قرر جواب {لو}، أي: لامتنع، وجعل قوله: {لاصطفى} الذي هو ظاهر في كونه جواباً غير جواب بل على معنى الاستئناف، وهو خلاف المطروق والمفهوم من جري الكلام. والله أعلم.
وما ذكره الزمخشري أيضاً من الامتناع مع الإرادة هو فرض لتعلُّق الإرادة بالممتنع، وهي إنما تتعلق بالجائز، ويحتمل بناؤه على مذهبه الفاسد في إرادة بعض ما لم يقع، وهو شنيع مذهبه، بل ويلزمه عود القهر عليه تعالى عن ذلك، وهو الله الواحد القهّار، فكيف يريد ويمتنع ما يريده؟! هل ذلك إلا عين القهر؟ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً. اهـ.
قال تعالى: {سبحانه} أي: تنزّه بالذات عن اتخاذ الولد، تنزهه الخاص به، على أن {سبحان} مصدر، من: سبّح: إذا بعّد. {هو اللهُ الواحدُ القهّارُ}: استئناف مبينٌ لتنزهه بحسب الصفات، إثر بيان تنزُّهه عنه بحسب الذات، فإن صفة الألوهية المستتبعة لسائر صفات الكمال، النافية لسمات النقصان، والوحدة الذاتية، الموجبة لامتناع المماثلة والمشاركة بينه تعالى وبين غيره على الإطلاق، مما يقتضي تنزهه تعالى عما قالوه، قضاء متيقناً، وكذا وصف القهارية؛ لأن اتخاذ الولد شأنُ مَن يكون تحت ملكوت الغير، عرضة للفناء، ليقوم الولد مقامه عند فنائه، ومَن هو مستحيل الفناء، قهّار لكل الكائنات، كيف يتصور أن يتخذ من الأسماء الفانية مَن يقوم مقامه؟ قاله أبو السعود.
الإشارة: الحق سبحانه غيور، لا يرضى لغيره أن يعبد معه غيره، كان على وجه الواسطة والتقريب، أو: على وجه الاستقلال. لذلك حَرُم السجود لغير الله، وأما الخضوع للأولياء، العارفين بالله، على غير وجه العبادة، فهو عين الخضوع لله؛ لأن الله تعالى أمر بالخضوع للرسل، الدالين على الله، وهم ورثتهم في الدلالة، لكن لا يكون ذلك على هيئة السجود، وإنما يكون على وجه تقبيل القدم أو الأرض بين أيديهم، كما قال الشاعر:
يا مَن يلوم خمرة المحبه ** فخذوا عني هي حلال

ومَن يرد يسقي منها عبهْ ** خَدّ يضع لأقدام الرجال

رأسي حططت بكل شيبه ** هم الموالي سقوني زلال

وجعل القشيري مناطَ الرد على الكفرة حيث فعلوا ذلك، وقالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله، بغير إذن الله، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم. فردَّ الله عليهم. قال: وفي هذا إشارة إلى ما يفعله العبد من القُرَبِ، بنشاط نَفْسِه، من غير أن يقتضيه حُكْمُ الوقت، وما يعقد بينه وبين الله تعالى من عقودٍ لا يفي بها، وكان ذلك اتباعُ هوىً. قال الله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]. قلت: ولأجل هذا وجب على مَن أراد الوصول إلى الله أن يتخذ شيخاً عارفاً بأحكام الوقت، ذا بصيرة بدسائس النفس، فيأمره في كل وقت، وفي كل زمان، بما يناسبه؛ ليُخرجه من هوى نفسه، وأسر طبعه، وإلا بقي في العنت والبُعد عن الله، يعبد الله على حرف، كلما زاد عبادة وقرباً في زعمه زاد بُعداً من ربه، وهو لا يشعر، فالنفس إن لم تتصل بمَن يرفع عنها الحجاب، كانت كدود القزِّ، تنسج الحجاب على نفسها بنفسها، حتى تموت في وسطه. وفي ذلك يقول الششتري في نونيته رضي الله عنه:
ونحن كَدُودِ القزِّ يحصرُنا الذي ** صنعنا لدفع الحصر سجناً لنا مِنَّا

وبالله التوفيق.